فصل: الباب الثاني: في أعمال الحج:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: عقد الجواهر الثمينة في مذهب عالم المدينة



.الأول: الإفراد:

وهو أن يأتي بالحج مفردا عاريا عن صفتي التمتع والقران، وهو أفضل منهما، والتمتع أفضلهما.

.الثاني: القران:

وهو أن يحرم بهما جميعا، فيتحد الميقات والفعل، وتندرج العمرة تحت الحج.
ولو أحرم بالعمرة، ثم أدخل الحج عليها قبل الطواف كان قارنا، فإن شرع في عمل العمرة، فقال أشهب: لا يصح قرانه حينئذ.
وقال ابن القاسم: يصح ما لم يكمل الطواف، وقال أيضا: ما لم يركع، وذكر القاضي أبو محمد: أنه يصح، ويرتدف الحج ما لم يكمل السعي.
ولو أدخل العمرة على الحج لم يصح، لأنه لا يتغير الإحرام به بعد انعقاده، وكذلك إرداف أحدهما على مثله، ولا يصح أيضا الجمع بين مثلين في عقد الإحرام.

.الثالث: التمتع:

وهو أن يفرد العمرة ثم الحج، لكن يتحد السفر؛ إذ يحرم بالحج قبل رجوعه إلى أفقه، أو إلى مثله، وله خمسة شروط:
الأول: أن لا يكون من حاضري المسجد الحرام، فإن الحاضر ميقاته نفس مكة، فلا يكون قد ربح ميقاتا.
وكل من مسكنه بمكة أو ذي طوى، فهو من الحاضرين، دون غيره: وقيل: بل كل من مسكنه دون مسافة القصر حوالي مكة. وقيل: بل كل من مسكنه دون المواقيت، وتردد مالك فيمن له أهل بمكة، وأهل بغيرها وقال: هي من مشتبهات الأمور، والاحتياط في ذلك أعجب إلي، وقال أشهب: إن كان أكثر إقامته بمكة، ويأتي غيرها منتابا، فلا هدي عليه، وإن كان بالعكس من ذلك، فعليه الهدي. قال أبو الحسن اللخمي: ولا يختلف في هذا، وقال: وإنما تكلم مالك على من تساوت إقامته في الموضعين.
فرع:
المراعى في حضور المسجد الحرام وقت فعله النسكين وابتدائه بهما، فإن كان في ذينك الوقتين مستوطنا مكة فحكمه حكم أهل الآفاق، وإن كان مستوطنا سائر الآفاق، فحكمه حكم أهل الآفاق.
الثاني: أن يتحلل من العمرة من أشهر الحج، ثم يحرم به، فلو تقدم تحللها لم يكن متمتعا، إذ لم يزحم الحج بالعمرة في مظنته.
الثالث: أن تقع العمرة والحج في سنة واحدة.
الرابع: أن لا يعود إلى أفقه، ولا إلى أفق مثل أفقه.
الخامس: أن يقع النسكان عن شخص واحد.
وإنما يجب دم التمتع بإحرام الحج، وهل يجوز تقديمه على الحج بعد إحرامه بالعمرة؟ فيه خلاف أجراه أبو الحسن اللخمي على الخلاف في تقديم الكفارة قل الحنث؛ لأن الموجود من هذا إنما هو أحد سببي التمتع، وهو العمرة.

.الباب الثاني: في أعمال الحج:

وفيه اثنا عشر فصلا:

.الفصل الأول: في الإحرام:

وينعقد بالنية المقترنة بقول أو فعل، مما يتعلق بالحج كالتلبية والتوجه على الطريق.
وقال ابن حبيب: التلبية كتكبيرة الإحرام، فعلى حقيقة تشبيه لو نوى وتوجه نحو البيت من غير تلبية، لم ينعقد إحرامه.
أما لو تجردت عنهما، فالمنصوص أنه لا ينعقد. ورأى أبو الحسن اللخمي إجراء الخلاف في هذه الصورة من الخلاف في مسألة انعقاد بمجرد النية. وأنكر الشيخ أبو الطاهر هذا الاستقراء، وقال: لم يختلف المهب أن العابدات لا تلزم إلا بالقول أو النية والدخول فيها، وهو الشروع.
وصفة تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لبيك اللهم لبيك نلبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك».
قال أشهب: ومن اقتصر على تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم المعروفة، اقتصر على حظ وافر، ولا بأس عليه إن زاد على ذلك فقد زاد عمر: لبيك ذا النعماء والفضل الحسن، لبيك، لبيك مرهوبا منك، ومرغوبا إليك.
وزاد ابن عمر: لبيك لبيك لبيك وسعديك والخير بيدك لبيك، والرغبى إليك والعمل.
ولو أحرم مطلقا لا ينوي حجا ولا عمرة، فقال أشهب: هو بالخيار، إن شاء جعلها حجة، وإن شاء جعلها عمرة، وأحب إلي أن يجعلها حجة، وقع له في موضع آخر: أحب إلي أن يكون قارنا.
ولو اختلف العقد والنطق، فالاعتبار بالعقد. وروي: ما يشير إلى اعتبار النطق، فروى ابن القاسم فيمن أراد أن يهل بالحج مفردا فأخطأ، فقرن أو تكلم بالعمرة، فليس ذلك بشيء، وهو على حجه. قال في العتبية: ثم روجع مالك فقال: عليه دم، وقاله ابن القاسم. ولو أحرم مفصلا، ثم نسى ما أحرم به، فإنه يكون قارنا عند أشهب.
وقال غيره: يحرم بالحج، ويعمل حينئذ القران.
ولو شك هل أفرد أو قرن هن تمادى على نية القران وحده.
وإن شك هل أحرم بالحج أو بالعمرة مفردا، طاف وسعى، لجواز أن يكون إحرامه بعمرة، ولا يحلق لإمكان أن يكون في حج، ويتمادى على عمل الحج، ويهدي لتأخير الحلاق لا للقران؛ لأنه لم يحدث نية للحج، بل تمادى على نيته الأولى، وهي لشيء واحد.
أما العمرة فلا يضره تماديه بعد فراغه من سعيها. وأما الحج فيكون مفردا، ويكون ما تقدم من الطواف والسعي له لا للعمرة.

.الفصل الثاني: في سنن الإحرام:

وهي أربع:
الأولى: الغسل تنظفا حتى يسن للحائض والنفساء، ويغتسل الحاج لثلاثة مواطن:
للإحرام، ولدخول مكة، وللوقوف بعرفة.
ولا يتطيب بعد الغسل، ولا يتطيب قبله أيضا بما تبقى رائحته بعد الإحرام.
فإن فعل فقد أساء، ولا فدية عليه. وحكى الشيخ أبو الطاهر قولا بوجوب الفدية، وعلله بأن بقاء الطيب كاستعماله.
الثانية: التجرد عن المخيط في إزار ورداء ونعلين.
الثالثة: أن يصلي ركعتين أو أكثر، ثم يلبي ناويا. فالراكب يبتدئ إذا ركب، وأراد الأخذ في السير. والماشي إذا أخذ في المشي، والأحسن أن تكون الصلاة مختصة بالإحرام، فإن أحرم عقيب الفرض، فلا بأس.
ولو أتى الميقات في وقت نهي، أمر بالانتظار لوقت الصلاة، إلا أن يكون خائفا أو مراهقا فيحرم.
الرابعة: أن يجدد التلبية عند كل صعود وهبوط، وحدوث حادث، وخلف الصلوات، وإذا سمع من يلبي.
ولا تفرع الأصوات بالتلبية في شيء من المساجد، إلا في المسجد الحرام ومسجد منى.
ولا يلبي في الطواف والسعي، فإن لبى فلا حرج، فإذا فرغ من سعيه عاود التلبية.
ويستحب رفع الصوت بها إلا للنساء، ولا يسرف في رفع الصوت، ولا يلح فلا يسكت. ثم يقطع في الحج إذا كان قاصدا لمكة حين يأخذ في الطواف.
ثم يعاود التلبية بعد فراغه من السعي إلى أن يقطع إذا زاغت الشمس من يوم عرفة في رواية ابن المواز. وإذا راح إلى المصلى في رواية ابن القاسم. وإذا راح إلى الموقف في رواية أشهب، واختارها سحنون، وحكى القاضي أبو محمد في إشرافه: أنه يلبي حتى يرمي جمرة العقبة. واستحسنه أبو الحسن اللخمي، ويقطع المعتمر من المواقيت وما قاربها، إذا دخل الحرم، وإن أحرم من القرب، فإذا دخل بيوت مكة.

.الفصل الثالث: في سنن دخول مكة:

وهي أن يغتسل بذي طوى، ويدخل مكة من ثنية كداء بفتح الكاف والمد، وهي الصغرى التي بأعلى مكة، يهبط منها على الأبطح والمقبرة فيها عن يسارك، وأنت نازل منها. ويخرج من ثنية كدي بضم الكاف وفتح الدال وتشديد الياء على التصغير، وهي الوسطى التي بأسفل مكة. فكذلك فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم يدخل المسجد من باب بنى شيبة، فيأتي الركن الأسود، ويبتدئ بطواف القدوم.
وكل من دخل مكة من غير مكثري التردد، فإنه يحرم عليه دخولها حلالا، وإن لم يرد نسكا، وقيل: يكره.
وقال أبو مصعب: يباح..

.الفصل الرابع: في الطواف:

وواجباته ستة:
الأول: شرائط الصلاة من طهارة الحدث والخبث وسترة العورة، إلا أنه يباح فيه الكلام.
فرعان:
الأول: لو طاف غير متطهر أعاد، فإن رجع إلى بلده قبل الإعادة، رجع من بلده على إحرامه إلى مكة فيطوف.
وقال المغيرة: يعيد ما دام بمكة، فإن أصاب النساء وخرج إلى بلده أجزأه.
الفرع الثاني:
لو طاف وفي ثوابه أو بدنه نجاسة، فعلم بها بعد طوافه فأزالها وصلى، لم يعد الطواف كمن ذكر بعد الوقت.
وإن ركع بها الركعتين أعادهما فقط إن كان قريبا، ولم ينتقض وضوءه. فإن انتقض أو طال ذلك، لا شيء عليه، كزوال الوقت.
قال أصبغ: سلامه من الركعتين، كخروج الوقت، وليس إعادتهما بواجب، وهو حسن أن يعيدهما بالقرب.
قال أشهب: إن علم بنجاسة الثوب في طوافه، نزعه إن كان كثيرا، وأعاد طوافه. وإن علم بعد فراغه أعاد الطواف والسعي فيما قرب إن كان واجبا، ون تباعد فلا شيء ويهدي، وليس بواجب.
الثاني: الترتيب، وهو أن يجعل البيت على يساره، ويبتدئ بالحجر الأسود، ولو جعله على يمينه، لم يصح، ولزمته الإعادة. قيل: إذا رجع إلى بلده لن تلزمه إعادة.
ولو بدأ بغير الحجر لم يعتد بذلك الشوط إلى أن ينتهي إلى الحجر، فمنه يبتدئ الاحتساب.
الثالث: أن يكون بجميع بدنه خارجا عن البيت، فلا يمشى على شاذروانه، ولا في داخل محوط الحجر، فإن بعضه من البيت.
الرابع: أن يطوف داخل المسجد، فلو طاف خارجه لم يجزئه. ولا يطوف من وراء زمزم، ولا من وراء السقائف، فإن فعل مختارا، أعاد ما دام بمكة، فإن رجع إلى بلده فهل يجزيه الهدي أو يلزمه الرجوع؟ للمتأخرين قولان.
الخامس: رعاية العدد، فلو اقتصر على ستة أشواط لم يجزئه.
السادس: ركعتان عقيب الطواف مشروعتان، وليستا من الأركان. واختلف في حكمهما فقال القاضي أبو محمد: هما ستة.
وقال القاضي أبو الوليد: الأظهر عندي أنهما واجبتان في الطواف الواجب، وتجبان بالدخول في التطوع.
وقال الشيخ أبو الوليد: حكمهما حكم الطواف في الوجوب والندب.
فرعان:
الأول: لو ترك الحاج أو المعتمر الركعتين، أعاد الطواف، ثم أتى بهما عقيبه وسعى.
قال ابن القاسم: يركعهما، ولا يعد الطواف ولا السعي.
الفرع الثاني:
وهو مرتب: إذا قلنا بإعادة الطواف، ثم أتى بهما عقيبه وسعى.
وقال ابن القاسم: يركعهما، ولا يعيد الطواف ولا السعي.
الفرع الثاني:
وهو مرتب: إذا قلنا بإعادة الطواف لاتصال الركعتين به، فإن فات ذلك بالبعد عن مكة ركعهما وأهدى.
أما سنن الطواف، فهن أربع:
الأولى: أن يطوف ماشيا لا راكبا، وإنما ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم ليظهر فيستفتي.
فإن طاف راكبا أو محمولا لغير عذر، فقال القاضي أبو محمد: يكره له ذلك.
وروى محمد لا يجزئه. قال القاضي أبو الوليد: وإنما يريد نحو ما ذهب إليه أبو محمد، لأنه روي عن مالك أنه قال: يعيد طوافه، فإن لم يفعل فليبعث بهدي.
الثانية: استلام الحجر الأسود بالفم ومس الركن اليماني باليد، فإن منعته الزحمة من الاستلام بالفم، اقتصر على لمسه بكفه، أو بما معه من عود إن لم يستطع لمسه. ثم في تقبيل ما يلمسه به، روايتان. ويستحب ذلك في آخر ذلك كل شوط.
الثالثة: الدعاء، وليس بمحدود.
وقال ابن حبيب: يقول عند ابتداء الطواف واستلام الحجر: بسم الله والله أكبر، اللهم إيمانا بك، وتصديقا بكتابك، ووفاء بعهدك، واتباعا لسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم.
الرابعة: الرمل للرجل دون النساء في الأشواط الثلاثة الأول، والهيئة في الأربعة الأخيرة، وذلك في طواف القدوم.
وفي شرعيته في طواف الإفاضة للمراهق، وفي طواف القدوم في حق من أحرم من التنعيم وشبهه، خلاف. فإن ترك الرمل أولا لم يقضه آخرا؛ إذ تفوت به السكينة.
ولو طيف بالمريض الذي لا يقدر على الطواف بنفسه، أو بالصبي، فالمنصوص في المريض أنه يرمل به، وفي الصبي قولان، وأجراهما أبو الحسن اللخمي في المريض.
ولو زوحم الطائف رمل بحسب قدرته، إن كان متحركا، وسقط عنه إن كان وافقا، لعدم تصوره.
فرع:
لو طاف المحرم بالصبي الذي أحرم عنه، أجزأ عن الصبي. ولو كان الطائف لم يطف عن نفسه، لم ينتقل إليه، ولا يكفيهما طواف واحد، بخلاف ما إذا حمل صبيين وطاف بهما طوافا واحدا، فإنه يكفيهما، كراكبين على دابة.

.الفصل الخامس: في السعي:

ومن فرع من ركعتي الطواف، استلم الحجر، وخرج من باب الصفا إليها، فترقى فيها حتى يبدو له البيت إن قدر، فيدعو ثم يمشي إلى المروة، ويترقى فيها ويدعو، ويسرع الرجال دون النساء في المشي في بطن المسيل، وهو ما بين الميلين الأخضرين. قال الشيخ أبو إسحاق: وثم ميل أخضر ملصق بركن المسجد، فإذا انتهى إليه سعى سعيا هو أشد من الرمل حول البيت، حتى يخرج من بطن المسيل إلى ميل أخضر هناك، ثم يعود إلى الهيئة. ويكمل له السعي بأن يحصل له الوقوف على الصفا أربعا، وعلى المروة أربعا، والترقي، والدعاء، وسرعة المشي سنن.
ولكن وقوع السعي بعد طواف ما شرط، فلا يصح الابتداء به، وليسع عقيب طواف القدوم، فإن كان مراهقا، فعقيب طواف الإفاضة.
ولو أخره غير المراهق، وأتى به بعد طواف الإفاضة، ففي لزوم الدم له وعدمه قولان لابن القاسم وأشهب.
فإن لم يأت به عقيب طواف الإفاضة، وأتى به عقيب طواف الوداع، فقال أبو الحسن اللخمي: يجزئه عند مالك، لأنه يرى أن واف التطوع في الحج يجزي عن الواجب. قال: ولا يجزي عند محمد بن عبد الحكم.
ولا تشترط فيه الطهارة، ولا شيء من شروط الصلاة بخلاف الطواف لكن تستحب.

.الفصل السادس: في الوقوف بعرفة:

وفي الحج ثلاثة خطب:
الأولى: أن يخطب الإمام اليوم السابع من ذي الحجة بمكة بعد الظهر خطبة واحدة، ولا يجلس فيها. وقل: يجلس في أثنائها، فيأمرهم بالغدو إلى منى، ويخبرهم عما يفعلونه إلى حين وصولهم إلى عرفة.
ثم يخرج اليوم الثامن بمقدار ما يدرك، بعد الوصول، صلاة الظهر هناك، ويبيت ليلة عرفة بمنى، ثم يغدو منها بعد طلوع الشمس، فيأتي عرفة، فيخطب بها بعد الزوال، وهي الخطبة الثانية، ويجلس في وسطها، يعلم الناس فيها ما يفعلونه من الوقوف والصلاة إلى اليوم الحادي عشر. ثم يخطب الثالثة اليوم الحادي عشر، فيعلمهم ما يفعلونه من بقية المناسك.
وإذا خطب الثانية بدأ المؤذن بالأذان إن شاء، والإمام في الخطبة. وإن شاء بعد فراغه منها، وقيل: إذا فرغ الإمام جلس، ثم أذن المؤذن. وفي الواضحة وغيرها: أنه إذا جلس بين الخطبتين أذن المؤذن، فإذا تمت الخطبة أقيمت الصلاة، فيصلي الظهر والعصر جميعا، ويجمع معهم العصر من صلى الظهر وحده، ثم يقبلون على الدعاء إلى وقت الغروب.
والوقوف راكبا أفضل، تأسيا برسول الله صلى الله عليه وسلم، ولأنه أقوى على الدعاء.
فإن لم يكن راكبا قائما، ولا يجلس إلا لعلة، أو لكلال. ثم يفيضون بعد الغروب إلى المزدلفة.
ويستحب المرور بين المأزمين، فيصلون بالمزدلفة المغرب والعشاء في وقت العشاء.
فلو قدمها الحاج قبلها، فقال ابن القاسم: يعيد، لأن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب لها ميقاتا.
وقال أشهب: يعيد العشاء وحدها، إن صلاها قبل مغيب الشفق، ورأى التأخير رخصة لا عزيمة.
والواجب من الوقوف ما ينطلق عليه اسم الحضور في جزء من أجزاء عرفة، سوى بطن عرنة، فإن وقف ببطن عرنة لم يجزئه لأنها من الحرم.
وإن وقف بالمسجد، فوقف مالك وابن عبد الحكم في إجزائه، وقال أصبغ: لا يجزئه.
قال محمد بن المواز: ويقال: إن حائط المسجد القبلي على حده، ولو سقط لسقط في عرنة. قال أبو الحسن اللخمي: وعلى هذا يجزئ الوقوف فيه، لأنه من الحل.
وقال: وكذا عند ابن مزين، أنه يجزئ الوقوف فيه.
واختلف في اشتراط كونه عاملا بأنه بعرفة، وفي اشتراط وقوفه بها، حتى لا يجزئ المرور من غير وقوف.
ولو أحضر المحرم المغمى عليه، ففي الكتاب قال: قال مالك يجزئه. وروى مطرف وابن الماجشون: إن أغمي عليه بعرفة قبل الزوال لم يجزئه، وإن أغمي عليه بعد الزوال، وكان ذلك قبل أن يقف أجزأه، وإن اتصل به الإغماء حتى دفع به، وليس عليه أن يقف ثانية إذا أفاق في بقية ليلته. قالا: وهو كالذي يغمى إليه في رمضان قبل الفجر أو بعده، وروي في: مختصر ما ليس في المختصر: إن وقف مفيقا ثم أغمي عليه أجزأه، وإن وقف مغمى علبيه فلم يفق حتى طلع الفجر، لم يجزئه.
وقاله أشهب في مدونته.
ويبتدئ وقت الوقوف من زوال الشمس يوم عرفة، وينتهي بطلوع الفجر يوم العيد. ومتعلق الإجزاء من ذلك الليل، فلا بد من الوقوف في الليل ولو لحظة.
فلو أنشأ الإحرام ليلة العيد جاز؛ لأن «الحج عرفة» ووقته باق. ولو فارق عرفة نهارا، ولم يكن حاضرا وقت الغروب، ولا عاد بالليل تداركا، فقد فاته الحج.
فرعان:
الأول: من أتى قرب الفجر وقد نسي صلاة، فإن صلاها طلع الفجر ولم يقف، ففي كتاب ابن المواز: إن كان قريبا من جبال عرفة، وقف وصلى، وإن كان بعيدا بدأ بالصلاة وإن فاته الحج.
وقال محمد بن عبد الحكم: إن كان من أهل مكة وما حولها، فليبتدئ بالصلاة، وإن كان من أهل الآفاق مضى إلى عرفة، فوقف وصلى.
الفرع الثاني:
لو وقف الحاج يوم العاشر غلطا في الهلال أجزأهم حجهم، ولم يجب القضاء، ويمضون على علمهم، ولو تبين لهم ذلك، وثبت عندهم في بقية يومهم أو بعده، ويكون حالهم في شأنهم كله كحال من لم يخطئ، وقاله ابن القاسم في العتبية، وقال أيضا: لا يجزئهم. واختلف فيه قول سحنون أيضا، وحكى الخلاف عنهما الأستاذ أبو بكر.
وقال أبو القاسم بن الكاتب القروي: ليس بين مالك ومن اتبعه خلاف أن حجهم تام. قال: وكذلك نقل عن الشافعي ومن اتبعه، وأبى حنيفة ومن اتبعه، وجميع علماء الأمصار.
ولو وقفوا اليوم الثامن لم يجزئهم، ووجب القضاء. وحكى القاضي أبو بكر القول بالإجزاء عن ابن القاسم وسحنون، واختاره.

.الفصل السابع: في أسباب التحلل:

فإذا جمع الحجيج بين المغرب والعشاء بمزدلفة باتوا بها، ثم ارتحلوا بعد أن يصلوا الصبح مغلسين بها، فإذا انتهوا عند المشعر الحرام، وقوفا فكبروا ودعوا، ثم دفعوا قبل الأسفار الأعلى، فيجاوزون إلى وادي محسر، فيسرعون المشي فيه، فإذا وافوا منى بعد طلوع الشمس، رموا سبع حصيات إلى الجمرة الثالثة، وهي العقبة، وكبروا مع كل حصاة بدلا عن التلبية؛ لأنها للإحرام، والرمي تحلل، ويأتونها على حسب حالهم قبل وضع رحالهم: الراكب راكبا، والماشي ماشيا.
ثم ينحرون ويحلقون، ويعودون إلى مكة لطواف الإفاضة، ثم يعودون إلى منى للرمي في أيام التشريق.
وللحج تحللان.
يحصل أحدهما برمي جمرة العقبة، والآخر بطواف الإفاضة.
ولو قدم إفاضة على رمي جمرة العقبة، فقال مالك وابن القاسم: تجزئه الإفاضة، وعليه الهدي، وقال مالك أيضا: لا تجزئه، وهو كمن لم يفض.
وقال أصبغ: أحب إلي أن يعيد الإفاضة وهو في يوم النحر آكد.
ويحل له بين التحللين جميع ما كان ممنوعا منه، إلا النساء والصيد والطيب.
والحلاق إن كان تحللا، فهو من المناسك هو أو التقصير.
وهل تفسد العمرة بالجماع قبل الحلق لأن التحلل لم يتم دونه، أو تجزئ ويجب الهدي؟ روايتان.
ولا يتم ها النسك بدون حلق جميع الرأس، فإن لم يكن على رأس المحرم شعر، فليمر الموس على الرأس.
ويقوم التقصير مقام الحلق، حيث يتمكن من الإتيان به على وجهه، وقد يتعذر للعجز عن ذلك، فيتعين الحلاق كمن لا شعر على رأسه، أو شعره لطيف لا يمكن تقصيره، أو لبد شعره، مثل أن يجعل الصمغ في الغسول، ثم يلطخ به رأسه عند الإحرام، أو عقصه، أو ظفره، فإنه لا بد من الحلق في جميع هذه الصور.
ويفتقر في التقصير إلى الأخذ من جميع الشعر، كما يأخذ في الحلاق جميعه.
ولو أزال الشعر عن رأسه بالنورة أجزأه.
وقال أشهب: لا يجزئه، وقال أبو الحسن اللخمي: اختلف فيه، وأرى أن يجزئه.
واستحب مالك إذا حلق أن يأخذ من لحيته وشاربه وأظفاره، وذكر أن ابن عمر كان يفعله.
والسنة في حق المرأة التقصير دون الحلاق، إذ هو تشويه في حقها.
فرع:
قال مالك في المرأة إذا قصرت: تأخذ قدر الأنملة، أو فوقه بقليل: أو دونه بقليل.
وقال في الرجل: ليس تقصيره أن أخذ من أطراف شعره، ولكن يجز ذلك جزا، وليس مثل المرأة فإن لم يجزه وأخذ منه، فقد أخطأ ويجزئه. قال القاضي أبو الوليد: يبلغ به الحد الذي يقرب من أصول الشعر.

.الفصل الثامن: في المبيت:

والمبيت بمزدلفة ليلة العيد، وبمنى ثلاث ليال بعده، نسك. فأما الثلاث، فيجب بتركه فيها الدم، وكذلك في واحدة منها.
وأما ليلة العيد، فإن دفع من عرفة إلى منى، ولم ينزل بالمزدلفة، فقال مالك: عليه الدم، وإن نزل بها، ثم دفع من أول الليل أو وسطه، فلا دم عليه.
وقال عبد الملك: لا دم عليه، وإن دفع من عرفة إلى منى.

.الفصل التاسع: في الرمي:

وهو من الأبعاض المجبورة بالدم، وهو رمي سبعين حصاة مثل حصى الخذف، واستحب مالك لقطها على كسرها.
يرمي سبعا يوم النحر إلى جمرة العقبة قبل نزوله، وإحدى وعشرين حصاة في كل يوم من أيام التشريق إلى الجمرات الثلاث.
ومن نفر في النفر الأول سقط عنه رمي اليوم الأخير، ومبيت تلك الليلة.
وقال ابن حبيب: يرمي عنه في الثالث عقيب رميه لليوم الثالث، كمنا كان يرمي لو لم يتعجل. قال الشيخ أبو محمد: وليس هذا قول مالك، ولا أعلم من هب إليه من أصحابه.
قال ابن المواز: وإنما يصدر رمي المتعجل كله بتسع وأربعين حصاة، منها سبع يوم النحر، ولليومين اثنتان وأربعون.
قال ابن القاسم: قال مالك: أرى أهل مكة مثل غيرهم في التعجيل، ثم استثقله لهم إلا من عذر من تجارة أو مرض.
قال مالك: ولا يعجبني لإمام الحاج أن يتعجل. محمد: قال أشهب: فإن فعل فلا بأس عليه، وأخذ ابن القاسم بقوله: إن لأهل مكة التعجيل كغيرهم، فإن غربت على المتعجل الشمس بمنى، لزمه المبيت والرمي. وأرخص للرعاء أن ينصرفوا بعد رمي جمرة العقبة يوم النحر، ثم يعودون ثالثه، فيرمون عن الثاني والثالث، ثم إن شاءوا انصرفوا إذ ذاك يوم النفر الأول، وإن أقاموا إلى الغد رموا مع الناس يوم النفر الآخر.
وقال ابن المواز: إن رعوا بالنهار ورموا بالليل فلا بأس به.
ووقت الرمي في أيام التشريق بين الزوال والغروب، ولا يجزئ إلا رمي الحجر، ويتبع اسم الرمي، ولا يكفيه الوضع.
والعاجز يستنيب في الرمي، إذا كان الظاهر من حاله أنه لا يزول عجزه في وقت الرمي.
وفي الرمي عنه ظهر من حاله أنه يقدر على الرمي ولو في آخر وقته، خلاف. وللرمي وقت أداء، ووقت قضاء، ووقت فوات.
فأما وقت الأداء في يوم النحر، فمن طلوع الفجر إلى غروب الشمس. وتردد القاضي أبو الوليد في الليلة التي تلي يوم النحر، هل هي وقت أداء أو وقت قضاء؟.
والفضيلة من هذا الوقت من بعد طلوع الشمس إلى الزوال. وما بعده لا يشاركه في الفضل، وإن شاركه في كونه وقت أداء. وكذلك ما قبل طلوع الشمس.
ووقت الأداء في كل يوم من الأيام الثلاثة من بعد الزوال إلى مغيب الشمس، ويتردد في الليل كما تقدم في جمرة العقبة. والفضيلة تتعلق بعقيب الزوال من هذه الأيام. ووقت القضاء لكل يوم ما بعده منها، فلا قضاء لليوم الرابع.
فإن ترك جمرة، أتى بها في يومها إن ذكرها فيه، ثم لا شيء عليه إلا أن تكون الأولى أو الوسطى فيعيد ما بعدها. وقيل: لا يعيد، وإن ذكرها بعد مضي يومها، أعاد ما كان في وقته خاصة. وقيل: لا يعيد.
ولو كان المتروك حصاة واحدة وذكر موضعها، رماها، فجبر بها النقض، ولم يعد رمي الجمرة. ويختلف فيما بعدها على ما تقدم. وقيل: يعيد رمي الجمرة. وقيل: يجزئه جبر نقصها إن كان يوم الأداء، ويبتدئ رميها إن كان يوم القضاء.
وكذلك إن لم يذكر موضعها، فقال في الكتاب: يرمي عن الأولى بحصاة، ثم يعيد ما بعدها.
وقال فيه أيضا: يبتدئ رمي الجميع، ولا يعتد بشيء.
ولا خلاف في وجوب الدم مع فوات القضاء، ولا في سقوطه مع الأداء. ويختلف في وجوبه وسقوطه مع القضاء. ثم يجب جنسه ترك جمرة أو حصاة، لكن يتنوع:
ففي ترك جمرة أو الجمار كلها، تجب بدنة، فإن لم يجد فبقرة، فإن لم يجد فشاة. وفي ترك الحصاة يهدي ما شاء. وفي كتاب محمد: من ذكر بعد أيام منى حصاة، ذبح شاة، فإن كانت جمرة، ذبح بقرة. محمد: وإن كانت الجمار كلها فبدنة.
وقال عبد الملك فيمن ترك حصاة إلى ست: فشاة، فإن كانت سبعا فهو كالجميع، وعليه بدنة.
ولا يبطل الحج بفوات شيء من الجمار.
وقال عبد الملك: يبطل بفوات جمرة العقبة.
فرعان:
الأول: في صفة الرمي.
وهي أن يبدأ بالجمرة التي تلي مسد منى، وهي الأولى، فيرميها من فوقها بسبع حصيات، واحدة بعد واحد، يتبع بعضها بعضا، ويكبر كلما رمى بحصاة، فإذا فرغ من رميها، تقدم أمامها، واستقبل الكعبة، فرفع يده وكبر الله وهلله وحمده، وأكثر ذكره والثناء عليه، على حسب ما يحضره ويستطيع، ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ويدعو لنفسه ولأبويه وللمؤمنين، ويطيل الوقوف للدعاء، فقد روي عن القاسم وسالم أنهما كانا يقفان قدر ما يقرأ ما الرجل السريع سورة البقرة.
ثم يمضي إلى الجمرة الوسطى، ويرميها كذلك، فإذا قضى رميها انصرف عنها ذات الشمال في بطن المسيل، فيقف أمامها مما يلي يساره، ووجهه إلى البيت، فيفعل في الوقوف والذكر والدعاء كفعله عند الجمرة الأولى. واختار ابن حبيب أن يكون وقوفه دون الوقوف الأول، لفعل ابن مسعود.
ثم يمضي إلى الجمرة القصوى، وهي جمرة العقبة، فيرميها كذلك، إلا أنه يرميها من أسفلها في الأيام الأربعة، يقف ببطن الوادي فيستقبلها، والبيت عن يساره ومنى عن يمينه، ولا يقف عندها للدعاء والذكر، كما فعل في اللتين قبلها، فتلك السنة.
ويستحب أن يأتي بالجمار في الأيام الثلاثة ماشيا ذاهبا وراجعا، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وليعلن الحاج بالتكبير أيام منى، ويذكر الله فيها، ويعاود ذلك وقتا بعد وقت إلى انقضائها، فقد كان عمر رضي الله عنه يكبر أول النهار، ويكبر الناس بتكبيره، ثم يكبر إذا ارتفع النهار كذلك،
ثم يكبر إذا زالت الشمس كذلك، ويكبر الحاج حتى ترتج منى بالتكبير، حتى يبلغ ذلك مكة، وبينهما ستة أميال. ثم يكبر بالعشي كذلك أيام منى كلها.
الفرع الثاني:
قال القاضي أبو محمد: ما يفعل بمنى من رمي ونحر وحلاق، فلا شيء في تقديم بعضه على بعض، إلا تقديم الحلاق على الرمي ففيه دم.
وقال الشيخ أبو الطاهر: إن ابتدأ بالنحر قبل الرمي فالمذهب سقوط الفدية، وإن ابتدأ بالحلق قبل الرمي، فقولان، سقوط الدم، ووجوبه. قال: والمشهور الوجوب. وإن ابتدأ بالحلق قبل النحر، ففي سقوط الفدية ووجوبها قولان لمالك وعبد الملك. وإن ابتدأ بالإفاضة قبل الرمي، فقد تقدم حكم ذلك.

.الفصل العاشر: في طواف الوداع:

ويسمى طواف الصدر، وهو مشروع إذا لم يبق شغل، وتم التحلل، وعزم على الانصراف، فإن عرج بعده على شغل خفيف، كما لو باع أو اشترى بعض حوائجه، لم يعده.
ولو أقام بعده يوما أو بعضه أعاد.
ومن خرج ولم يودع، رجع ما لم يخش فوات أصحابه، ولو برز بهم الكري فبات بذي طوى، لم يرجع، ولا يجب بتركه دم.
ولا يودع مكي، ولا قادم أوطن مكة، ولا خارج إلى التنعيم ليعتمر، ولا من اعتمر ثم خرج من فوه، فإن أقام ثم خرج ودع. وكذلك من فاته الحج ففسخه في عمرة في الحالتين جميعا.
ويودع من خرج إلى ميقات، كالجحفة وغيرها، والمكي إذا سافر، ومن حج من مر الظهران أو من عرفة أو غيرهما مما يقرب. ولا وداع على من طاف للإفاضة ثم خرج من فوره.
والحائض تخرج بعد الإفاضة، ولا تترقب الطهر لتودع.
فِأما لو حاضت قبل الإفاضة لجلست حتى تطهر أو تستحاض ويحبس عليها كريها.
واختلفت الرواية في مدة الحبس. فروى أشهب: خمسة عشر يوما. وروى غيره: خمسة عشرة يوما، وتستظهر بعد ذلك بيوم أو يومين أحب إلي. وروى ابن القاسم: قدر ما تقيم في حيضتها والاستظهار. وروى ابن وهب: يحبس أكثر ما تقيم الحائض في الحيض، والنفساء في النفاس. قال الشيخ أبو محمد: وعليه أكثر أصحابه.
وقال غيره: أما في زماننا فإنه يفسخ للخوف.
وقال شيخه أبو بكر محمد بن اللباد: قيل: هذا كله: أما في زماننا فإنه يفسخ للخوف.
وقال شيخه أبو بكر محمد بن اللباد: قيل: هذا كله من الآمن، فأما في هذا الوقت حيث لا يأمن في طريقه، فهي ضرورة، ويفسخ الكراء بينهما.
فرع:
إذا قلنا برواية ابن القاسم، فتجاوز الدم مدة الحبس، فهل تطوف، أو يفسخ الكراء؟ قولان.

.الفصل الحادي عشر: في بيان ما يجبر بالدم وما لا يجبر:

اعلم أن جميع أفعال الحج تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
واجبات أركان، وواجبات ليست بأركان، ومسنونات مستحبات ليست بأركان ولا واجبات.
القسم الأول: واجبات هي أركان كالإحرام، وقوف عرفة، وطواف الإفاضة، والسعي. وزاد عبد الملك بن الماجشون: جمرة العقبة.
ومعنى قولنا أركان: أنه لا يجزئ منها إلا الإتيان بها، ولا جبران لها من دم ولا غيره.
القسم الثاني: واجبات ليست بأركان.
وهذه تجبر بالدم، وهي ترك التلبية جميعها، وترك طواف القدوم لغير المراهق، وتجاوز الميقات لمريد الإحرام إذا أحرم عبد تجاوزه، وترك الجمار كلها، أو ترك بعضها، أو حصاة منها، وترك النزول بمزدلفة.
وإن أخر ركعتي طواف القدوم، وذكر ذلك بمكة أو قريبا منها بعد فراغه من حجه، رجع فطاف وسعى وعليه دم. وإن ترك المبيت بمنى لياليها أو ليلة منها، فعليه الدم. وغن ترك الوقوف مع الإمام متعمدا حتى دفع الإمام. ثم وقف بعده ليلا قبل طلوع الفجر، أساء وعليه الدم، وحجة مجزئ عنه.
وإن رجع نم عرفات فأصابه أمر احتبس له: مرض أو غيره، فلم يصل مزدلفة حتى فاته الوقوف بها، فعليه الدم. وإن ترك الحلاق حتى ردع لبلده، حلق وعليه دم.
ومن أنشأ الحج من مكة، فطاف وسعى قبل خروجه إلى عرفات، ثم لم يسع عد إفاضته من عرفة حتى رجع لبلده، فعليه الدم.
قال الأستاذ أبو بكر: وأصحابنا يعبرون عن هذه الخصال بثلاث عبارات، فمنهم من يقول: واجبة، ومنهم من يقول: وجوب السنن، ومنهم من يقول سنة مؤكدة.
قال: ولم أر لأحد من علمائنا هل يأثم بتركها أم لا، أو أرادوا بالوجوب وجوب الدم، والأمر محتمل.
القسم الثالث: مسنونات مستحبات.
وهذا القسم لا يأثم بتركه، ولا يجب فيه الدم. وهو مثل الغسل للإحرام، أو لدخول مكة، وترك الرمل في الطواف أو ببطن المسيل بين الصفا والمروة، واستلام الركن، وترك الصلاة قبل الوقوف بعرفة، أو ترك الحلاق بمنى يوم النحر، وحلق بمكة، أو في الحل أيام منى، أو ترك طواف الوداع، أو ترك مبيت منى ليلة عرفة، أو المبيت بمزدلفة، ثم الدفع منها، أو ترك الوقوف مع الإمام بها، أو ترك القيام عند الجمرتين للدعاء.

.الفصل الثاني عشر: في حكم الصبي:

وللولي أن يحرم عن الصبي الذي لا يميز، ويحضره المواقيت، فيحصل الحج للصبي نفلا.
والمميز يحرم بإذن الولي، ويتولى المميز الأعمال بنفسه. وما يزيد من نفقة السفر، فعلى الصبي إن خاف الولي عليه ضيعة بتركه، وعلي الولي أن لم يخف عليه.
وحيث قلنا: زيادة النفقة في مال الصبي، فالفدية في ماله، وجزاء الصيد.
وحيث قلنا: في مال الولي، فجزاء الصيد أيضا في ماله، وقيل: في مال الصبي.
وإذا فسد حجه، فعليه القضاء والهدي. ولو بلغ الصبي في حجه، لم يقع عن حجة الإسلام. وعتق العبد في الحج كبلوغ الصبي.
ولو طيب الولي الصبي، فالفدية على الولي، إلا إذا قصد المداواة، فيكون كاستعمال الصبي.

.الباب الثالث: في محظورات الحج والعمرة:

وهي أنواع:
الأول: اللبس.
وإحرام الرجل في رأسه ووجهه، فيحرم على المحرم أن يستر رأسه بما يعد ساترا من خرقة أو رداء أو عمامة، ولا بأس أن يتوسد بوسادة، ولا بأس أن يستظل تحت المحمل وهو سائر، أو يجعل يده على رأسه أو يستر وجهه بيده من الشمس.
وقال سحنون: لا يستظل تحت المحمل وهو سائر.
مالك: ولا يستر المحرم على رأسه، ولا على وجهه من الشمس بعصا فيها ثوب، فإن فعل افتدى، ولا بأس بالفسطاط والقبة، وهو نازل. ولا يعجبني أن يستظل يوم عرفة بشيء.
ولا يستظل في الحبر، إلا أن يكون مريضا، فيفعل ويفتدي.
وقال ابن الماجشون: لا بأس أن يتظلل المحرم إذا نزل بالأرض، ولا بأس أن يلقي ثوبا على شجرة، فيقيل تحته، وليس كالراكب والماشي، وهو النازل كخباء مضروب. وذكر ابن المواز في كتاب المناسك: أنه لا يستظل إذا نزل بالأرض بأعواد يجعل عليها كساء أو غيره، ولا بمحمله. قال: وإنما وسع له في الخباء والفسطاط والبيت المبني.
وقال يحيى بن عمر: لا بأس بذلك كله إذا نزل بالأرض.
وقال مالك في المرأة تعادل الرجل في المحمل: لا يعجبني أن يجعلا عليهما ظلا، وعسى أن يكون في ذلك بعض السعة إن اضطر إلى ذلك. وفي رواية أشهب: لا يستظل هو، وتستظل هي، وقاله ابن القاسم.
وقال أبو الحسن اللخمي: إن كان في محارة كشف عنها، فإن لم يفعل افتدى.
وقد نقل الإمام أبو عبد الله والقاضي أبو بكر: أن ابن عمر أنكر على منت استظل راكبا، وقال: اضح لمن أحرمت له! ثم نقلا عن الرياشي أنه قال: رأيت أحمد بن المعذل الفقيه في يوم شديد الحر، وهو ضاح للشمس، فقلت: يا أبا الفضل، هذا أمر قد اختلف فيه، فلو أخذت بالتوسعة، فأنشأ يقول:
ضحيت له كي أستظل بظله ** الظل أمسى في القيامة قالصا

فيا أسفا إن كان سعيك باطلا ** ويا حسرتا إن كان حجك ناقصا

فإن كان نازلا بالأرض لم يستظل تحتها، فإن فعل افتدى، ولا بأس أن يكون في ظلها خارجا عنها.
وكذلك إن كان ماشيا، فلا بأس أن يستظل بظلها إذا كان خراجا عنها، ولا يمشي تحتها. واختلف إذا فعل.
ولو حمل على رأسه ما لا بد له منه، كخرجه وجرابه وغيره، فلا بأس به. ولا يحمل ذلك لغيره تطوعا ولا بإجارة، فإن فعل افتدى.
ولا يحمل لنفلسه تجارة من بز أو سقط ونحوه، ولم يرخص له في حمل التجارات. قال أشهب: إلا أن يكون عيشه ذلك.
ولا يغطي المحرم وجهه أيضا، فإن غطاه فلا فدية عليه. وحكى القاضي أبو محمد في إيجاب الفدية رواية، ثم خرج الخلاف في ذلك على أن التغطية محرمة أو مكروهة.
قال ابن القاسم: ولا بأس أن شد منطقته تلي جلده لنفقته، ولا يربطها على عضده أو فخذه، واستخفه أن فعل: ألا فدية عليه.
وقال أصبغ: يفتدي في شدها في العضد.
وإن شدها فوق إزاره، أو ربطها على جلده لحمل نفقة غيره افتدى، وكذلك إن احتزم بحبل أو خيط لغير عمل، فإن كان لعمل، فلا فدية عليه، وكذلك إن ربط المنطقة أولا لنفسه، ثم أضاف إليها نفقة غيره، أو تقلد السيف لحاجته إلى ذلك، فلا فدية عليه. قال ابن وهب: فإن تقلده لغير ضرورة افتدى.
وقال أصبغ: لا فدية على. قال الشيخ أبو محمد: يريد وإن طال.
وقد روي عن مالك ولو ألصق على قرح خرقا صغارا، فلا شيء عليه، وإن كانت كبارا افتدى، وإذا ألصق ذلك على صدغيه لصداع افتدى. وله أن يعصب رأسه لصداع أو لجرح، ويفتدي. وكذلك الجباير وشبهها.
أما سائر الجسد فله ستره، لكن لا يلبس المخيط الذي أحاطت به الخياطة كالقميص، أو النسج كالدرع، أو العقد كجبة البلد. فلو ارتدى بقميص أو جبة فلا بأس، وكذا إذا التحق بأحدهما.
ولو لبس القباء لزمته الفدية، وإن لم يدخل اليد في الكم ولا زرره. وحكى الشيخ أبو الطاهر في جواز لباس الخاتم قولين:
وأما المرأة فإحرامها في وجهها وكفيها، ولها أن تستر وجهها بثوب تسدله عليه من فوق رأسها، ولا تغزره بإبرة.
فإن كان عديما فليفتد المحرم، ويرجع على الفاعل إن أيسر بالأقل من ثمن الطعام أو ثمن النسك إن افتدى بأحدهما، وإن صام فلا يرجع عليه بشيء.
النوع الثالث: ترحيل الشعر واللحية بالدهن.
وهو يوجب الفدية، فلو دهن الأصلع رأسه فكذلك، فإن كان الشعر محلوقا، فأولى بالوجوب.
ويكره له غمس رأسه في الماء حفية قتل الدواب، فإن فعل أطعم شيئا من طعام.
وليس له غسله بالسدر والخطمي، وأولى بالمنع، ويفتدي إن فعل.
ولا بأس بالاكتحال للرجال بالإثمد والمر والصبر وغير ذلك، لحر يجده أو لضرورة، أن يكون في الكحل طيب، فإنه يفتدي. ويكره أن يكتحل لزينة.
وقال ابن القاسم: فإن اكتحل لزينة فعليه الفدية.
ولا تكتحل المرأة بالإثمد لزينة، فإن اكتحلت لغير زينة لها، إلا أن يكون لضرورة، ولا طيب فيه، فلا فدية عليها. وروى ابن القاسم وابن وهب وأشهب: لا يكتحل المحرم ولا المحرمة بالإثمد، لأنه زينة، بخلاف الحلي للمحرمة؛ لأن الحلي شيء تضعه عليها، فإن اكتحلت به من غير وجع تجده بعينها، ولا لحر تجده، فعليها الفدية، وكذلك الرجل. وإن كان لضرر بعينها أو بعينيه، فلا بأس بذلك.
النوع الرابع: التنظف بالحق وفي معناه القلم.
وتحرم على المحرم إبانة الشعر، سواء أبانه بحلق أو بنتف أو غيره، ومن رأسه أو من البدن.
ولو خلل لحيته فتساقط شيء من شعرها في وضوئه أو غسله، فلا شيء عليه.
وتكمل الفدية بحلق ما يترفه به، ويزول معه أذى، فإن لم يترفه بذلك، ولا أماط به أذى، أطعم شيء من طعام. وإن حلق بسبب الأذى جاز، ولزمته الفدية. ولو نتف شعره أو شعرات، أطعم شيئا من طعام، فإن نتف ما أماط به عنه أذى، فليفتد. وإن قلم أظفاره افتدى.
وكذلك إن قلم ظفرا واحدا لإماطة أذى، وإن لم يمط به أذى أطعم شيئا من طعام. وإن انكسر ظفره فليلقمه، ولا شيء عليه. وإن قص الشارب افتدى، لأنه إماطة أذى، وكذلك إن نتف ما يخفف به عن نفسه أذى وإن قل فليفتد.
وقال ابن القاسم: ولم يحد مالك فيما دون الإماطة أقل من حفنة، وكذلك في قملة انو في قملات حفنة من طعام، وهي بيد واحد.
والنسيان لا يكون عذرا في الحلق والإتلافات. وإن حلق الحلال شعر الحرام بإذنه، فالفدية على الحرام. وإن كان مكرها فعلى الحلال، وإن كان ساكتا فهو كالأذن.
وإن حلق محرم رأس حلال، قال مالك: يفتدي. قال ابن القاسم: وأنا أرى أن يجزئه شيء من طعام لمكان الدواب، وقاله سحنون.
النوع الخامس: الجماع.
ونتيجته الفساد والقضاء والهدي.
ويفسد الحج إذا وقع قبل الوقوف إجماعا، ولا يفسد إذا وقع بعد يوم النحر ولم يرم ولم يفض، وعليه عمرة والهدي وهدي آخر لتأخير الرمي، وقيل: يفسد.
فإنه كان في يوم النحر، ولم يرم ولم يفض، فأولى بالإفساد، وهو المشهور. وروي أنه لا يفسد.
ولو أفاض ولم يرم، ثم وطئ، فليس عليه إلا الهدي، ولا عمرة عليه. محمد: وهو كتارك رمي الجمرة، وقاله بأن كنانة.
وقال ابن وهب: إن وطئ يوم النحر فسد حجه إذا لم يرم، وإن أفاض وقاله أشهب: قال أصبغ: وقول ابن القاسم وابن كنانة أحب إلينا.
قال ابن القاسم: ولو أصابها يوم النحر بعد الرمي وقبل الإفاضة، وقد كان حلق أم لا، فعليه عمرة والهدي. ويفسد العمرة أيضا وقع قبل الركوع.
هذا في غير المعذور، أما المعذور بحر أو برد فله اللبس، لكن تلزمه الفدية.
وليس للرجل ولا للمرأة لبس القفازين، وعليهما الفدية في ذلك. وقيل: لا فدية عليها في لبسهما بخلافه.
وليس لها لبس النقاب ولا البرقع ولا اللثام، فإن فعلت شيئا من ذلك افتدت.
ولا يلبس الرجل الخفين، إلا أن يطر إليهما، فيقطعهما أسفل من الكعبين عدم النعلين، فإن لبسهما تامين، فعليه الفدية.
النوع الثاني: التطيب:
وتجب الفدية باستعمال الطيب المؤنث، أو مسه كالزعفران والورس والكافور والمسك وغيره، وقيل: لا تحب بمجرد المس.
ويكره له شم الريحان والورد والياسمين وشبهه من غير المؤنث، فإنه شمه أو مسه أو علق بيده، فلا فدية فيه. واستخف ما أصباه من خلوق الكعبة؛ إذ لا يكاد ينفك منه، ولينزع الكثير عنه، وهو مخير في نزع اليسير.
ولا شيء عليه في أكل الخبيص المزعفر، وقيل: إن صبغ الفم، فعيه الفدية. وما خلط بالطيب من غير طبخ، ففي إيجاب الفدية به روايتان.
ولو بطلت رائحة الطيب، لم يبح استعماله. ومعنى الاستعمال، إلصاق الطيب باليد أو الثوب، فإن عبق به الريح دون العين، كجلوسه في حانوت عطار، أو في بيت تجمر ساكنوه، فلا فدية عليه، مع كراهية تماديه على ذلك.
ولو مس جرم الطيب، فإن عبقت به رائحته وأبقاه افتدى، وإن لم تعبق أو عبقت ومسحه في الحال، ففي وجوب الفدية الخلاف المتقدم. ولو حمل مسكا في قارورة مصممة الرأس، فلا فدية.
وما تجب به من ذلك الفدية، فتجب بفعله عمدا أو سهوا أو اضطرارا أو جهلا.
فإن ألقيت الريح عليه طيبا، فليبادر إلى غسله، فإن تراخى لزمته الفدية. وكذلك لو أن نائما، فطيبه غيره، فليغسله عند الانتباه، فإن أخر افتدى، وعلى فاعله به الفدية بنسك أو إطعام لا بصيام.
وفي إفساده لها إذا وقع، ولم يبق سوى الحلاق، روايتان.
ويستوي في الإفساد الجماع في الفرج، أو في المحل المكروه في النساء والرجال، كان معه إنزال أم لا. وكل إنزال عن استمتاع بقبلة أو جسة أو استدامة نظر أو ذكر، على خلاف في استدامة الذكر، أو وطئ فيما دون الفرج، أو حركته دابته فاستدام حتى أنزل.
ثم حيث قلنا: لا يفسد الحج، فعليه الهدي والعمرة بعد أن يطوف، لأن عليه أن يأتي بالطواف والسعي في إحرام لا وطء فيه، إلا أن تكون المواقعة بعد الإضافة، فيكون عليه الهدي فقط. ثم يجب المضي في فاسده بإتمام ما كان يتمه لولا الإفساد. ثم إذا أتم الفاسد، لزمه القضاء والهدي، وهو بدنة.
وقال القاضي أبو الحسن: هذا يجب مع القدرة على البدنة، فإن لم يجد فبقرة، فإن لم يجد فشاة. قال: لأنه لا يخرج بهذا عن الهدي الذي أدناه شاة. قال: وهذا لنا منصوص عليه، حتى إنه لو خرج شاة مع القدرة على البدنة لأجزأه على تكره. قال القاضي أبو الوليد: وهذا من قول القاضي أبو الحسن يدل على أن الكلام في الاستحباب.
ثم يساق هذا الهدي من الحل إلى الحرم، وينحره في الحج بمنى، بعد أن يوقفه بعرفة، وإلا نحره بمكة.
ويفارق من أفسد الحج معه، زوجة كانت أو أمة، من حين الإحرام إلى بعد التحلل من حجة القضاء، خشية التذكر الداعي إلى الإفساد.
ويتأدى بالقضاء ما كان يتأدى من فرض الإسلام أو غيره، وإن كان تطوعا فيجب، ولا يتأدى به غير التطوع، ووجوب القضاء على الفور في العام القابل.
وإذا أحرم من مكان لم يلزمه الإحرام في القضاء من ذلك المكان، بل يحرم من الميقات. وكذلك لم أحرم في زمان لم يلزمه أن يحرم في ذلك الزمان. ويقضي مثل الإحرام الذي أفسده من إفراد أو قران أو تمتع.
فلو قضى عن القران إفرادا أو تمتعا، لم يجزئ ولا يجزئ القران عن الإفراد.
وقال عبد الملك: يجزئ.
وهل يجزئ الإفراد عن التمتع؟ قال الشيخ أبو الطاهر: الروايات أنه لا يقضي مفردا. قال: واعترض هذا أبو الحسن اللخمي ورأى إجراء الإفراد، لأن الحج الذي أفسده هو مفرد، ولا دخول للعمرة في الإفساد، فلم يلزم قضاؤها. قال: وهذا الذي قاله ظاهر، لولا أنهم في الروايات نظروا إلى كون القضاء على صفة المفسد.
ويجب الهدي بالإفساد، وينحر في القضاء على المشهور. وفي جواز تقديمه خلاف، ولو قدم هدي قران القضاء فنحره، لم يجزئه.
وفي إجزائه إذا قلده وأخر نحره إلى حجة القضاء خلاف.
ويحج زوجته أو أمته في القضاء إن كان هو المفسد عليها حجها. وعليه في قضاء القران هديا الفساد والقران في حجة القضاء. وفي القران المفسد خلاف، منشؤه النظر إلى حال الإحرام أو مآله.
النوع السادس: مقدمات الجماع.
وهي الاستمتاع بما دونه، كالقبلة والمباشرة وشبهها، وجميعها مكروه.
فإن فعل شيئا منها، فكان عنه الإنزال، أفسد كما تقدم، وإن لم يكن عنه إنزال، فقد روى محمد من قبل امرأته ولم ينزل شيئا، فليهد بدنة، وإن غمزها بيده، فأحب إلي أن يذبح في ذلك، وفي كل ما يلتذ به منها. قال: ولا يمس كفها، ويكره أن يرى ذراعيها، ولا بأس أن يرى شعرها، ويكره أن يحملها على المحمل، وإن الناس ليتخذون سلالم. ولا بأس أن يفتي المفتي في أمور النساء.
فأما النكاح والإنكاح، فلا ينعقدان من المحرم، ولا فدية فيه. وله مراجعة زوجته وهما محرمان.
فإن قيل: فلو باشر جميع هذه المحظورات، فهل يتداخل الواجب؟ قلنا: إن لبس الثياب وتطيب وحلق وقمل أظفاره في فور أحد، ففدية واحدة تجزئه. ولو فعل شيئا بعد شيء، ففي كل واحد فدية. وكذلك إن تعالج بدواء فيه طيب مرارا متصلة متقاربة في فور واحد، فكفارة واحدة.
وإن اختلفت الأدوية: فإن كانت شيئا بعد، وحاجة بعهد حاجة، فكل وقت كفارة، وكذلك كحله بدواء فيه طيب في اتصلا الأمر واستقباله، وكذلك مداواته لقرحة به مرارا بدواء فيه طيب إلا أن يكون نوى من أول مرة أن يفعل ذلك كله ففدية واحدة.
فإما إن ظهرت به قرحة أخرى، فداواها به، فلا بد من كفارة أخرى. ولو قلم اليوم أظفار يده، وقلم في غد أظفاره يد الأخرى، فكفارتان. وإن وطء مرة بعد مرة امرأة واحدة أو نساء فهدي واحد ففي ذلك كله، لأن حجة قد سد، ولا يفسد بما ذكرنا أولا.
ولو لبس سراويل وقميصا في وقتين، فإن بدأ بالقميص، ففدية واحدة، وإن عكس ففديتان إلا أن يلبسهما في فور واحد، ففدية واحدة.
ولو لبس ما احتاج إلى لبسه من ذلك، ثم نزعه ثم عاود لبسه، ففديتان، إلا أن يكون نوى أول مرة أن يفعل ذلك كله، ففدية واحدة لذلك كله تجزئه، وإن كان بين ذلك أياما.
ثم حيث قلنا تجب الفدية باللبس، فإنما ذلك إذا انتفع باللبس لحر أو برد أو دام عليه كاليوم، فأما لو لبس قميصا ولم ينتفع به من حر أو برد حتى ذكر فنزعه، فلا شيء عليه، وكذلك إن جرب خفا فلبسه ثم نزعه مكانه، فلا شيء عليه.
النوع السابع: إتلاف الصيد.
والصيد يحرم لسببين: أحدهما الإحرام، والآخر الحرم. والنظر في الإحرام يتعلق بأطراف.
الأول: في الصيد.
ويتخصص التحريم بصيد البر، ويعم جميعه، فيحرم إتلاف صيد البر كله، ما أكل لحمه وما لم يؤكل لحمه، من غير فرق بين أن يكون متأنسا أو وحشيا أو مباحا. ويحرم التعرض لأجزائه بيضه.
ويلزم الجزاء بقتله وبتعريضه للتلف، إلا أن تتبين سلامته مما عرض له. ولا يستثني عن ذلك إلا ما تناوله الحديث، وهو الغراب والحدأة والفأرة والعقرب والكلب العقور.
والمشهور: أن الغرب والحدأة يقتلان وإن لم يبتدئا بالأذى. وروى أشهب المنع من ذلك، وقاله ابن القاسم، إلا أن تؤذي فتقتل، إلا أنه إن قتلهما من غير أذى، فلا شيء عليه،
قال أشهب: إن قتلهما من غير ضر وداهما. واختلف أيضا في قتل صغارهما ابتداء، وفي وجوب الجزاء بقتلهما.
وأما غيرهما من الطير، فإن لم يؤذ فلا يقتل، فإن قتل ففيه الجزاء، وإن آذى، فهل يقتل أم لا؟ قولان. وكذلك إذا قلنا: لا يقتل فقيل، فقولان أيضا. المشهور: نفي وجوب الجزاء.
وقال أشهب: عليه في الطير الفدية، وإن ابتدأت بالضرر. قال أصبغ: من عدا عليه شيء من سباع الطير فقتله، وداه بشاة. قال ابن حبيب: هذا من أصبغ غلط. وحمل بعض المتأخرين قول أصبغ هذا على أنه كان قادرا على الدفع بغير القتل، فأما لو تعين القتل في الدفع، فلا يختلف فيه.
وأما العقرب والحية والفأرة فيقتلن، حتى الصغير وما لم يؤذ منها، لأنه لا يؤمن منها الأذى، إلا أن تكون من الصغر حيث لا يمكن منها الأذى، فيختلف في حكمها.
وهل يلحق صغير غيرها من الحيوان المباح القتل لأذيته بصغارها في جواز القتل ابتداء؟
فيه خلاف.
والمشهور من المذهب أن المراد بالكلب العقور: الكلب الوحشي، فيدخل فيه الأسد والنمر وما في معناهما. وقيل: المراد الكلب الإنسي المتخذ. وعلى المشهور: يقتل صغار هذه، وما لم يؤذ من كبيرها.
الطرف الثاني: في الأفعال الموجبة للضمان، وهي ثلاثة: المباشرة، والتسبب، واليد.
ولا تخفى المباشرة والتسبب كنصب شبكة، أو إرسال كلب، أو انحلال رباطه بنوع تقصير في ربطه، وتنفير يد حتى يتعثر قبل سكون نفاره. كل ذلك يوجب الضمن إذا أفضى إلى التلف.
ولو رآه الصيد ففزع فمات، ففي وجوب الجزاء عليه ونفيه خلاف بين ابن القاسم وأشهب: قال محمد: وقول أشهب أحب إلي، وأخذ به سحنون. قال ابن حبيب: قال أصبغ: إلا أن يكون كانت من المحرم حركة نفر لها.
وكذلك لو ضرب فسطاطه فتعلق به صيد فمات، أو فر الصيد لرؤيته فعطب، أو أمر غلامه بإرسال صيد فقلته، ظانا أنه أمره بقتله.
ولو حفر المحرم بئرا للسارق أو السبع، ضمن ما عطب فيه.
وقال أشهب: إن حفر في موضع يخشى على الصيد منه ضمنه، وإلا لم يضمنه.
ولو أرسل كله على أسد، فعرض له صيد فقتله الكلب، ففي وجوب الجزاء خلاف، ولو دل غيره على صيد، عصى ولا جزاء عليه. وقيل: عليه الجزاء.
وقال أشهب بتخصيص الجزاء بدلالة الحرام دون دلالة الحلال. وحكى الشيخ أبو الطاهر قولا بعكس قول أشهب، وعلل الوجوب بأنه لا يمكن إسقاط الدية، وعلل الإسقاط باستقلال المدلول بالدية.
وإثبات اليد سبب الضمان إلا إذا كان في بيته فأحرم، فلا يلزمه إرساله، ولا يزول ملكه عنه، ولو كان بيده فأحرم زال ملكه عنه، ولزمه إرساله.
وكذلك لو كان في رفقته وهو ملكه، فإن لم يرفع يده عنه حتى مات، لزمه جزاؤه. والناس كالعامد في الجزاء إلا في الإثم.
وحكى أبو الحسن اللخمي عن محمد بن عبد الله بن عد الحكم أنه قال: لا جزاء في غير العمد، ولا فيما تكرر. ولو صال عليه صيد، فلا ضمان في دفعه. ولو أكله في مخمصة ضمنه، ولو عم الجراد في المسالك فتخطاه المحرم فحطمه، فلا شيء عليه إذا لم يتعمده.
الطرف الثالث: في الأكل.
ولا بأس بأكل المحرم من لحم صيد صاده حلال لنفسه أو لحلال، ولا يأكل من لحم صيد صاده أو صيد من أجله. وما ذبح من الصيد بيده، أو صاده بكلبه، فكالميتة لا يأكله حلال ولا حرام، ولو وداه ثم أكل من لحمه، فلا جزاء عليه لما أكل، كأكله الميتة. وما ذبح من أجل محرم بأمره أو بغير أمره، وإن ذبحه حلال أو حرام، فلا يأكله المحرم ولا غيره. وروي عن ابن القاسم أنه إن كان عالما أنه صيد من أجله، أو من أجل محرم سواه، فالجزاء عليه، وإن لم يعلم فلا شيء عليه، وإن صيد من أجله.
وروي عن مالك في المختصر وكتاب ابن المواز العتبية: أنه لا جزاء على من لم يصد من أجله من المحرمين.
وقال أصبغ: لا جزاء عليه، وإن صيد من أجله وإن علم، كمن أكل ميتة محرمة، وغير هذا خطأ.
الطرف الرابع: في الجزاء.
والواجب في الصيد مثله من النعم، أو مقاربة في الخلقة والصورة، إن كان مما له مثل أو مقارب، أو طعام بمثل قيمة الصيد، أو صيام يعدل الطعام، لكل مد أو كسرة يوم، وهو على التخيير.
فإن لم يكن مثليا كالعصافير وغيرها، فعدل قيمته من الطعام، أو عدل ذلك صياما.
والعبرة في ذلك محل الإتلاف أن يقوم فيه، وإلا فبأقرب مكان يتقوم فيه، ويفرقه حيث يقومه، أو في أقرب المواضع إليه، إن لم يجد به مستحقا.
قال القاضي أبو محمد: ولا يجوز إخراج شيء من جزاء الصيد بغير الحرم، إلا الصيام. وحكى الشيخ أبو إسحاق: أنه يطعم حيث شاء. ثم قال: وقيل: إنه يطعم في موضع قتله الصيد، وهذا أحب إلي.
والواجب من المثل في النعامة بدنة، وفي الفيل أيضا بدنة، لكن من الهجان العظام. قال بعض القرويين: وهي التي لها سنامان وهي بيض خراسانية. قال: وذكر ذلك عن ابن ميسر.
قيل: فإن لم يجد شيئا من هذه الجمال التي ذكرت عن ابن ميسر؟ قال: ينظر إلى قيمته طعاما، فيكون عليه ذلك، ولا ينظر إلى شبع لحمه.
وقال غيره من القرويين: ليس في هذه المسألة رواية، وليس للفيل نظير، وإنا ينظر إلى مثله من الطعام، فيطعم المساكين قدر ذلك، ولا ينظر إلى لحمه دون عظمه، وإنما ينظر إلى مثله كله من الطعام، فيكون على قاتله قدر ذلك.
قيل: فكيف يستطاع ذلك؟ قال: قد قيل: يجعل في مركب، وينظر إلى منتهى ما ينزل المركب، ثم يخرج الفيل، ويجعل في المركب الطعام حتى ينزل إلى الحد الذي نزل والفيل فيه، وهذا عدله من الطعام. وبهذا يعرف قدره، قال: وأما أن ينظر إلى قيمته، فهو يكون له ثمن عظيم، لأجل عظامه وأنيابه، فيكثر طعام، وذلك ضرر.
وفي حمار الوحش بقرة، وكذلك في الإبل وبقر الوحش. وفي الضبع شاة. وفي الثعلب قولان، أحدهما: شاة، والآخر: قيمته طعام أو صيام. وفي الضب روايتان: إحداهما: شاة، والأخرى قيمته طعام أو صيام.
وفي الأرنب واليربوع روايتان، قال في كتاب ابن حبيب: في كل واحد منهما عنز.
وقال في المختصر: ويحكم فيهما بالاجتهاد، لأنه لا مثل لهما في الخلقة. وفي الصغير ما في الكبير في الجنس والصفة. وكذلك المعيب فيه ما في السليم، ويحكم بالمماثلة عدلان، فإن كان القاتل أحدهما لم يجز، وكان مخطئا أو عامدا.
وفي حمام مكة شاة، ولا يفتقر في إخراجها إلى حكمين. وحمام الحل يضمن بالقيمة كسائر الطير.
ويلحق حمام الحرام بحمام مكة عند مالك وابن الماجشون وأصبغ.
وقال ابن القاسم: يلحق بحمام الحل.
واختلف في القمري والفواخت، وكل ما عب وهدر، هل هو في معنى الحمام أم لا؟ على قولين لأصبغ وابن الماجشون، مأخذهما النظر إلى عموم التسمية أو إلى ما اختص به الحمام من التحرم بالبيت.
فروع:
لا يقابل المريض بالمريض، ويقابل كل من الذكر والأنثى بالأنثى والذكر.
وإن ضرب ظبية حاملا، فألقت جنينا ميتا، ففيه عشر قيمة أمه. وإن انفصل من الأم، فاستهل ثم مات، ففيه الجزاء كاملا. وإن تحرك لم يسهل، فقال ابن القاسم: فيه عشر دية أمه، وقال أشهب: فيه دية، بخلاف الآدميين.
وإن أتلف بيضا، فهل تكون فيه حكومة، أو عشر الدية؟ وهو المشهور. أو ما في الكبار؟ ثلاثة أقوال: وهي على النظر إلى الحال أو إلى المآل، وقال أبو مصعب: في بيضة النعامة عشر قيمتها إن كان فيها فرخ، فإن لم يكن فصيام يوم.
ولو أزمن صيدا فعليه الجزاء كاملا، فإن قتله غيره، فعلى القاتل جزاؤه سليما. فأما لو جرحه، فإن برئ على غير نقص، فلا شيء فيه. وإن نقصه الجرح، ففيه ما بين قيمته صحيحا، وبين قيمته مجروحا، قاله محمد ورواه عيسى عن ابن القاسم. وفي الكتاب: لا أرى عليه فيه شيئا، وهو اختيار القاضي أبي الحسن، ورآه ككفارة الآدمي.
ولو اشترك المحرمون في قتل صيد واحد، فعلى كحل واحد منهم جزاء كامل، لأنه من باب الكفارات.
وقتل القارن للصيد لا يوجب تعدد الجزاء، وكذلك قتل المحرم صيدا حرميا.
السبب الثاني للتحريم: الحرم، والنظر في أطراف.
الأول: في الصيد، ويضمن منه في الحرم ما يضمن بالإحرام، والتسبب كالتسبب، والجزاء كالجزاء، وإنما يختص الحرم بفروع نذكرها متتالية، فنقول:
الحلال إذا أدخل الحرم صيدا مملوكا، ولم يحرم عليه ذبحه فيه، ولا بأس أن يذبح بمكة الحمام الإنسي والوحشي.
ويجب الجزاء على من رمى من الحل إلى الحرم، أو بالعكس. وقيل: بنفي الوجوب في العكس. ولو رماه وهما في الحل فجرئ، فأدركته الرمية في الحرم فقتله، وداه. ولو قطع السهم في مروره هواء طرف الحرم، فليدعه ولا يأكله، قاله ابن القاسم. ولو تخطى الكلب طرف الحرم، فلا شيء عليه، إلا لم يكن له طريق سواه. ولو أرسله بقرب الحرم، فطلبه حتى أدله الحرم، ثم أخرجه منه قتله خارجا وداه، ولا يأكله، وكأنه أرسله من الحرم.
لتغريره بقربه. ولو كان بعيدا من الحرم، فلا جزاء عليه، ولا يؤكل الصيد. ولو طرد صيدا حتى أخرجه من الحرم، فعليه جزاؤه. قال ابن الماجشون: ولا بأس أن يرسل الحلال كلبه من الحرم على ما في الحل، ويؤكل ما أصاب.
ولو كانت شجرة نابتة في الحل، وفرعها في الحرم، فأصيب ما عليه من الصيد، ففيه الجزاء، ولو كانت في الحرم وفرعها في الحل، لكان في وجوب الجزاء نظرا إلى الأصل، ونفيه نظر إلى موضع الفرن قولان.
الطرف الثاني: في النبات.
ويحرم القطع نبات الحرم، أعني ما ينبت بنفسه دون ما يستنبت، ويستثني عنه الإذخر للحاجة، وكذلك السنا. ولو اختلى الحشيش للبهائم، كره. ولو استنبت ما ينبت، أو نبت ما يستنبت، لكان النظر إلى الجنس لا الحال.
ثم إن قطع ما نهي عن قطعه أثم، ولا يلزمه شيء.
الطرف الثالث: في الحرم.
والأصل فيه مكة، والمدينة ملحقة بها في تحريم صيدها، وعضد شجرها، ولا تلحق بها في جزاء الصيد.
وقال ابن نافع: تلحق بها فيه أيضا.
فرع:
في تحديد الحرم من نوادر الشيخ بي محمد: قال مالك: بلغني أن عمر حدد معالم الحرم، ووضع أنصابها بعد أن كشف عن ذلك من يعرفه ممن له قدم.
قال ابن القاسم: والحرم خلف المزدلفة بمثل مليين، ومزدلفة في الحرم، وسمعت أن الحرم يعرف بأن لا يجئ سيل من الحل فيدخل الحرم، وإنما يخرج السل من الحرم إلى الحل، وهو يجري من الحل، فإذا انتهى إلى الحرم وقف، ولم يدخل فيه. ولا يدخل الحرم.
قال الشيخ أبو محمد: ومن غير كتاب محمد لغير واحد من أصحابنا أن حد الحرم ما يلي المدينة نحو من أربعة أميال إلى منتهى التنعيم. ومما يلي العراق ثمانية أميال إلى مكان يقال له: المقطع، ومما يلي عرفة تسعة أميال، ومما يلي طريق اليمن: سبعة أميال إلى موضع يقال له: أصاة، ومما يلي جدة عشرة أميال إلى منتهى الحديبية، قال: ومن العتبية قال مالك: والحديبية في الحرم، قال: ومن كتاب ابن حبيب: قال: وحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بين لابتي المدينة بريدا في بريد، ولا يعضد شجرها ولا يخبط.